موقع إخباري شامل

ياسين الخطابي.. رسم طريقه وحيدا من أعالي الريف إلى المدن ذوات العلم

اشتغل بداية الإستقلال بالإدارة الترابية ولكن سرعان ما ضاق عليه "جلباب الداخلية"

0

الحسيمة: الغبزوري السكناوي

 كثيرة هي الأسماء التي تأبى ركوب أشرعة النسيان، وتظل حية تذكر في دروب الحياة، أشخاص حتى وإن ثوت الأرض أجسادهم، فالذاكرة والقلب يحفظان أرواحهم، أو هم كذلك بين أهلهم ومعارفهم، وقد صدق الشاعر محمد علاء زايد  حين قال:

لِلهِ دَرُّ أُناسٍ أينما ذُكِرُوا

تَطيبُ سيرتُهُمْ حتَّي وإنْ غابُوا

  شخصية اليوم من هذه الطينة، هي من عمق هذا الوطن الكبير، ومن أقصى أطرافه الشمالية، مولدها كان غير بعيد عن أحداث الحرب العالمية الأولى، وفي زمن كان فيه المغرب تحت نير الإستعمار الإسباني والفرنسي، إنه المناضل ياسين الخطابي، الذي انخرط بمعية ثلة من أبناء جيله من الريف في العمل الوطني والحزبي.

  تزامنت طفولته؛ وجزء من يفاعته؛ مع توالي العديد من الأحداث والوقائع التي كان الريف والشمال المغربي مسرحا لها، سواء على المستوى العسكري او السياسي، وكان لها الأثر البليغ على الوضع الإجتماعي والإقتصادي للمنطقة، وهي الظروف التي ساهمت؛ أيضا وبشكل كبير؛ في تشكيل وعيه السياسي، وانخراطه المبكر في النضال الوطني.

  حياة الرجل هي في الحقيقة سيرة جيل بأكمله، وديوان أحلام عن الوطن والحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية…، ولكن  أين المنى من درك المراد!!! فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، حيث سرعان ما انهارت هذه الأماني والأحلام، وأدرك أصحابها أنهم كانوا يسبحون في واقع سياسي مغلق نتيجة تطاحنات سياسية ضيقة أدخلت البلاد في التيه وأورثتهم حزنا وأسى، ففضل الكثير منهم التواري خلف ستار الحياة، دونما ضجيج أو حتى بوح، وكأنهم يرددون قول الشاعر المزوغي: 

لا تَسْأَلُوا هُدْهُداً قد جاء من سبإٍ

فليس تدري الذي قَاسَيتُهُ سَبَأُ

إنّ الَّذِينَ رَمَوا في التيه خُطْوَتَنَا

وأورثونا الأسى يدرون ما النَّبَأُ

أبصر النور في زمن الظلام

وعاش طفولة اغتالها اليتم والحرب

   ولد ياسين امحمد محمد الخطابي في أسرة بسيطة بداية القرن الماضي؛ وبالضبط سنة 1919؛ مسقط رأسه كان بأعالي الريف الأوسط، بدوار إصريحن التابع حاليا للجماعة القروية إمرابطن بإقليم الحسيمة، في منطقة جبلية عرفت بشح الإنتاج الفلاحي، وازدادت أوضاعها كارثية بسبب منع اسبانيا للفلاحين (1917) من حرث وزراعة أراضيهم، مما نتج عنه غلاء المعيشة وتضاعفت بسببه قسوة الحياة والظروف الإجتماعية.

  ياسين الخطابي، واحدا ممن رسم طريقه في ظروف صعبة دونما إتكٱ أو اعتماد، فقد والده قبل أن يتجاوز عمره ثلاث سنوات، ورغم ذلك فالفتى ألقى ظهره على “صخر متين” بعد أن تولت والدته تربيته والتكفل به، وكانت له السند والمعين، وأمدته بتيار الأمل محفزة فيه علو الهمة والمثابرة، فتفطن وهو لا زال غظ الإهاب إلى أن طوق النجاة الوحيد أمامه هو الدراسة والتعليم.

  في البداية؛ وكأغلب الأطفال الذين جايلوه؛ وفي ظل غياب التعليم النظامي؛ انطلق ياسين الخطابي في مسيرة اقتطاف العلم. بتعلم الأحرف من كتاب الله في مسجد القرية والدواوير المجاورة، وفي يفاعته تنقل بين مختلف قباىل الريف في رحلات متعبة لحفظ القرٱن الكريم ودراسة بعض الشروح، والإلمام بالمبادئ الأساسية لعلوم اللغة، وطول كل هذه المسيرة ظل الرجل مدينا لوالدته التي أشرعت له نوافذ الأمل، وكانت له غيثا يروي عزيمته وطموحه حتى أزهر مونقا، ودائما ما كان يردد في استعارة بديعة، قول الشاعر:

نحنُ زهر الرُّبَا وجودُك غيثٌ

هَلْ بغير الغُيوث يُونِقُ زهرُ

رسم طريقه وحيدا.. من أعالي الريف إلى المدن ذوات العلم..

الظروف الصعبة التي عاشها ياسين الخطابي، لم تكن يوما سدا أمام أحلامه,د، فرغبته الجامحة في الدراسة وفي المزيد من التعلم وولعه الشديد بالثقافة والأدب جعلاه لا يبالي بشظف العيش، فمن أجل هذا الحلم كثيرا ما افترش الأرض والتحف السماء، ولاقى في مسيرته الكثير من الخطوب والأخطار، فغير ما مرة فنى وانقضى زاده، ولم يجد لقمة يسد بها رمقه، ولكن ما خضعته الضائقة للإستسلام أو القلق والتراجع، فقد أمن أن الحياة وإن كانت سفينة محطمة فلا يجب أن تنسينا “لذة الغناء” في قوارب النجاة.

  كان لطلب العلم محل عظيم في اهتمامات وميولات ياسين الخطابي، فقرر مغادرة الريف وشد الرحال إلى المدن ذوات العلم والأثر لدراسة بعض المتون العلمية والشرعية، كابن عاشر والأجرومية وألفية بن مالك ولامية الأفعال وتحفة ابن عاصم والمنطق والمواريث وغيرها من العلوم الدينية واللغوية أو العلوم الحديثة التي كانت متاحة في حلقات الدراسة التي كانت تعقدها الحوامع الكبرى بالمدن العريقة في غياب مدارس التعليم النظامي والعصري حينها.

   وفي هذه الفترة من تكون المدن ذوات العلم والأثر؛ غير تطوان وفاس؛ حيث هاجر سنة 1939 إلى تطوان التي كانت تشهد زخما نضاليا مهما على المستوى السياسي والثقافي، وهو الزخم الذي تزامن مع رجوع بعثات الطلاب المغاربة من المشرق العربي، وإطلاق رجالات الحركة الوطنية لدينامية جديدة من مقاومة الإستعمار عبر الثقافة والتعليم من خلال تأسيس اللبنة الأولى لمؤسسات التعليم الحر والعصري لنشر الوعي الوطني عبرها إلى جاتب الصحافة ومختلف الأنشطة من محاضراتٍ ونوادٍ ثقافية.

   الرجل؛ وكغيره من الشباب التواق إلى الدراسة والتعليم؛ عمل على استثمار هذا الزخم الثقافي والنضالي وراح يواصل دراسته متشبعا بالروح الوطنية التي نفثتها مدارس التعليم الحر والأهلي إلى جانب الجوامع والزوايا والهيئات الثقافية، فقد تزامنت دراسته بتطوان مع إطلاق أول ثانوية بشمال المغرب؛ سنة 1940؛ والتي كانت تحمل إسم  المعهد  المغربي  للدراسة  الثانوية والتي كانت قد اتخذت مقرا لها ببناية مدرسة الصنائع الواقعة قبالة باب العقلة وقبلها كان قد تم تأسيس المعهد الحر في الخامس من نوفمبر 1935. 

   كما استفاد الخطابي من الدروس التي كان يقدمها العلماء ورواد الإصلاح الوطني بالجامع الكبير الذي كانت بجواره مدرسة لسكنى الطلبة، ولكن حبه المستمر للعلم والدراسة جعله يرحل فيما بعد نحو العاصمة العلمية والروحية للمغرب، فحط الرحال بمدينة فاس ونزل أول الأمر ضيفا على المدرسة الرشيدية أو مدرسة “الشىراطين” التي كانت تستقبل طلبة من مختلف أرجاء المغرب، ومن خارجه، من تافيلالت، تازة، الريف وبني يزناسن، والجزائر وأيضا بضع طلبة من منطقة جبالة ومن الغرب وحوز مراكش.

   ظمؤُه الدائم لتحصيل العلم دفعه إلى الإستزادة منه والإلتحاق ب “قطب العلم ومداره” جامع القرويين من أجل تحسين معارفه وتعميق مداركه في سائر العلوم والفنون المعروفة آنذاك، من الأدب والتاريخ والتفسير والقراءات والحديث والكلام والتوحيد والفقه والتصوف، وبعد التخرج من القرويين كانت تحذوه رغبة كبيرة للإلتحاق بالقاهرة لمتابعة دراسته إلا أن شرايين قلبه ظلت معلقة بوالدته فقرر أن يمكث إلى جانبها ويعتني بها، محاولا أن يرد لها ولو القليل من الدين،  معتبرا أن كل الديون قد تُقضى إلا دَيْن الأم.

تأثر بنسأئم الفكر القومي

التي هبت على الشمالً

  دراسة ياسين الخطابي بتطوان ومكوثه بها لفترة من الزمن جعلته يتشبع بالروح الوطنية، ويتأثر كثيرا بقادة الإصلاح الوطني، خاصة وأنه عاش قريبا منهم وتتلمذ على أيديهم، مثل عبد الخالق الطوريس، واحتضنته المدارس الخاصة للحركة الوطنية بالشمال التي انتبهت مبكرا إلى دور الثقافة في نشر الروح الوطنية، واستنهاض همم الشباب للمطالبة بالإستقلال، وولجت “معركة الهوية” حينما أدركت أنها هي أيضا في مرمى مدفعية الإستعمار الغاشم.

  تزامنت إقامته بعاصمة المنطقة الخليفية والمدينة تعييش على إيقاع تبلور مسارات جديدة للنضال الوطني ساهم في خلقها القرب من أوربا، وهي المسارات التي انطلقت بشكل واضح خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وبالخصوص بعد رجوع البعثات الطلابية من المشرق العربي وزيارة كل من أمير البيان شكيب أرسلان للمغرب سنة (1930) وأمين الريحاني (1939) واستغلال رواد الحركة الوطنية للأوضاع الداخلية لإسبانيا بعد اندلاع الحرب الأهلية وللإنفراج السياسي الذي حدث بعد انتهاء هذه الحرب.

 على بساط هذه “الأرض الهادرة” والأجواء السياسية والثقافية المتميزة، تأثر ياسين الخطابي بنسائم الفكر القومي  التي هبت على الشمال، وفي هذا “الفضاء الخليفي” المتسم بالتعدد والتنوع والقريب من طنجة الدولية تشبع بقيم الحداثة وانتصر لها، خاصة وأن المغرب كان حينها “يلج عتبة الحداثة” وكانت كل نخبه السياسية والثقافية؛ وعلى اختلاف مشاربها ومذاهبها الفكرية تحاول أن تتجاوز “صدمة الحداثة” وتنفلت من شباك الزمن الرتيب للمغرب التقليدي والعتيق، وبالرغم من دراسته العتيقة والدينية  فقد عرف عن ياسين الخطابي تفتحه الفكري، خاصة وأن الرجل تملك مجموعة من المعارف والعلوم من يد قادة الإصلاح الوطني الذين تابعوا دراستهم مبكرا بالمشرق وأوروبا، وتتلمذ أثناء مساره الدراسي والنضالي بتطوان وفاس على أيدي علماء كانوا “عنوانا للإنتماء المنفتح” ومفكرين شكلوا كوكبة متألقة استطاعت أن تتجاوز”المنعرجات الفكرية” لمغرب بداية القرن العشرين، وكانوا نجوما في سماء الفكر الحر والإصلاح الديني.

انبهاره بعلال الفاسي كان جسرا للعبور نحو حزب الإستقلال 

 كغيره من شباب زمانه تأثر ياسين الخطابي بالحركات التحررية التي عرفها العالم بداية القرن العشرين، وخاصة تلك التي نشأت بالمشرق العربي، وانخرط مبكرا في النضال الوطني من أجل المطالبة بالإستقلال، حيث نشط بداية مساره السياسي في حزب الإصلاح الوطني بزعامة وقيادة عبد الخالق الطوريس، غير أنه سرعان ما انبهر بشخصية وفكر الزعيم علال الفاسي، وكان هذا الإنبهار جسره للعبور نحو حزب الإستقلال، خاصة وأن حزب الإصلاح الوطني دمج سنة 1956 في حزب الإستقلال.

  وكغيره من نشطاء الحركة الوطنية تعرض ياسين الخطابي؛ غير ما مرة؛ للإعتقال والتضييق، واحدة منها كانت وهو في طريقه من تطوان إلى فاس، حيث تم توقيفه من طرف سلطات الإستعمار الفرنسي، وأثناء عملية التفتيش عثر الجنود بين دفتي كتبه على منشورات الحركة الوطنية المناهضة للإستعمار والداعية إلى التحرر، فكان أن ادعى وأصر أثناء التحقيق عدم علمه بها بمبرر أن الكتب التي بحوزته هي على سبيل الإعارة فقط وليست ملكا له، فأخلي سبيله بعدما مزقوا تلك الكتب.

 حينها شعر الرجل بالكثير من الأسى والحزن، وتركت هذه الواقعة في نفسه جرحا غائرا لم يندمل رغم مرور السنين والأعوام، خاصة وهو الذي كان يمجد العلم والثقافة، ويعز الكتب لدرجة إضفاء القدسية عليها، وكان كثيرا ما يعلق على هذه الواقعة بالقول “لو مزقوا أحشائي، أو أطعموني ريق حية، ما كنت سأشعر بكل هذا الأسى والألم،  نعم كنت أفضل ذلك، وكنت سأصبر للأمر أكثر من أن تمزق كتبي والمنشورات التي كانت بحوزتي”

  الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعرض مرة أخرى للتوقيف والإعتقال، على خلفية نشاطه الحزبي والإنخراط في النداءات المطالبة بالإستقلال والتحرر، فكان واحدا ممن ألقي عليه القبض يوم  الثلاثاء 11 يناير 1944، بعدما نَفّذت القوات الإستعمارية اعتقالات عنيفة فور نشر وبث وثيقة المطالبة بالإستقلال، وكان شاهدا على بشاعة التعذيب الذي مارسته القوات الفرنسية في حق الوطنيين المغاربة، وفي حق كل من ثبت اعتزازه بالإنتماء إلى الحركة الوطنية أو انخراطه في النضالات المطالبة بالإستقلال ومحاربة الإستعمار.

   ومن صور بشاعة التعذيب والتنكيل التي كان يحكي عنها، أن قوات الإستعمار الفرنسي كانت تفرض على السجناء قطع المسافة الفاصلة ييز فاس القديمة وصفرو مشيا على الأقدام، وسياط الجلاد تنهال عليهم طول هذه الطريق، وتحت وابل من السب والشتم والقذف بأبشع الأوصاف والنعوت، وإذ ما حدث وتعثر أحدهم أو وقع على الأرض، من شدة العياء والتعذيب والجوع، فمصيره سيكون بكل تأكيد هو القتل والرمي بالرصاص الحي دون رحمة أو شفقة.

 ياسين الخطابي.. واحد من الوطنيين الٱوائل الذين تقلدوا مهام الإدارة الترابية

  يعد ياسين الخطابي واحدا من أبناء الرعيل الأول للوطنيين المغاربة الذين تولوا وظائف بالإدارة الترابية، وذلك مباشرة بعد الإستقلال وصدور الظهير الشريف رقم 047-56-1 في  20 مارس 1956 القاضي بتحديد النظام الأساسي للقواد، حيث اقتضى رأي محمد الخامس تعيينه قائدا على قبيلة “بني يطفت” إقليم الحسيمة بتاريخ 31 يوليوز 1956، أي بعد أشهر فقط من تأسيس أول حكومة مغربية برئاسة مبارك البكاي لهبيل، وعلى رأس وزارة الداخلية حسن اليوسي. 

  واستنادا إلى ظهير تعيينه فقد تم اعتماده و”تنصيبه” قائدا على قيادة سنادة (بني يطفت) من طرف السفير القيم على شؤون المنطقة الشمالية؛ الأستاذ عبد الخالق الطوريس؛ بتاريخ 13 أكتوبر 1956 أي قبل شهور من تعيين المقاوم محمد منصور كأول عامل على إقليم الحسيمة (1957) معاصرا في عمله القصير ثمانى حكومات وستة وزراء داخلية، قبل أن يتم إعفاءه سنة 1963 في ظروف سياسية حاولت فيها “أم الوزارات” تعبيد الطريق أمام جبهة “الفديك” حزب وزير الداخلية ٱنذاك؛ أحمد رضا اكديرة؛ الذي تأسس بتاريخ 20 مارس 1963 بهدف التحكم في أول تجرية برلمانية عرفها مغرب الإستقلال.

   بعدها اتجه ياسين الخطابي نحو العمل الحر، معرضا عن المناصب الرسمية والإمتيازات، حيث أسس بمعية صديقه “السي علي الداودي” بشارع محمد الخامس بالحسيمة مكتبة ليبقى قريبا من عالم الكتب والثقافة، مدركا بفضل عمق وعيه المجتمعي والسياسي أن مركب “العمل الحزبي والداخلية” ما عاد يسير بهدوء في هذا البلد، بل أصبح يتجه؛ وبلا أشرعة؛ نحو الدوّامات والأمواج، وعليه سرعان ما اختار التواري خلف ستار الحياة، مركزا كل اهتمامه على أسرته الصغيرة، ومهتما بتعليم وتكوين أبناءه وبناته، حيث ظلت جذوة العلم والثقافة متقدة في كفه وما انطفأت يوما، وظل لسان حاله يردد قول الشاعر: 

ما في الحياة بغير العلم منفعة  

وهل بغير ضياء ينفع البصر؟

وبالفعل تحقق حلم ياسن الخطابي، وكانت النتيجة أبناء وأحفاد أصبحوا أمل مسيرته؛ وصاروا عقدا فريدا حرص على صياغته بعناية فائقة، مشكلا إياه بجواهر براقة، تجدهم اليوم في مواقع المسؤولية بمختلف مؤسسات القطاع العام أو الخاص، داخل المغرب وخارجه، حيث كان لهم المرشد الناصح والنبراس الوهاج في طلب العلم ونهل المعرفة، مربيا إياهم ان بناء الأوطان لن يتم خارج المعرفة والعلم، مؤمنا بأن مسيرة الألف ميل تبدأ من حيث تتواجد أنت وليس من الميل الأول كما يقال.

 كان بالنسبة لأبنائه وبناته وأحفاده بمثابة “زاد الطريق” ومن الذين “أينما ألقوا خُطَاهُمْ يَنْبُتُ الْكَلَأُ” وصار جسرا لهم نحو النجاح، ورغم كل الصعاب فعزيمة هذا المناضل لم تنل منها أية ضائقة، وظل كسنابل قمح تنقلب مع الرياح لكنها لا تسقط، مؤمنا أن للحياة معتركات يجب أن يستعد لها الإنسان بعزيمة لا تلين وبالشكل المطلوب؛ ف “السماء لم تكن تمطر عندما بنى نوح السفينة” والإنسان محكوم عليه بمواجهة تقلبات الحياة بالرضا والقدرلأن 

اللهُ أَعْظَمَ مِمَّا جَالَ في الفِكَر

وَحُكْمُهُ في البَرَايَا حُكْمُ مُقْتَدِرِ

وارتباطا بمساره المهني.لا بد أن نشير إلى أن ياسين الخطابي اشتغل لفترة؛ قبل تعيينه قائدا على “سنادة”؛ مدرسا بجامع القرويين، وذلك مباشرة بعد التخرج، حيث جرت العادة حسب النظام التعليمي المعمول به ٱنذاك أن تسند مهمة تدريس بعض أطوار التعليم بهذا الجامع إلى خريجيه من العلماء المتميزين، وبعد “تحرره” من قيود وزارة الداخلية زاول الإمامة لحوالي إثنتا عشر سنة تقريبا، حيث كان خطيبا بمنطقة “تازوراخت” بإقليم الحسيمة، وذلك منذ بداية السبعينات إلى حدود سنة 1982.

رجل سلطة سرعان ما ضاق عليه ملبس أم الوزارات

  لم يظل ياسين الخطابي طويلا في حضن وزارة الداخلية، حيث سرعان ما جاءه نبأ الإعفاء من مهامه كرجل سلطة، كان حينها يتولى قيادة منطقة كتامة، لم يكن الأمر بالنسبة له مفاجأة بل كان متوقعا، خاصة وأن البلاد كانت تعيش وقتها في سياق سياسي وإداري جد متوتر، كانت فيه مختلف أجهزة الدولة تسابق الزمن وتسرع الخطوات نحو ضبط التوازنات وصنع خريطة سياسية على المقاس، وبالشكل الذي يكون سدا منيعا أمام الإمتداد الشعبي لأحزاب الحركة الوطنية.

  ولفهم سياق إعفاء “القائد” ياسين الخطابي؛ بشكل أعمق؛ لا بد  وأن نشير إلى أن هذا القرار جاء أياما قليلة قبل الإستحقاقات المحلية التي درات يوم 28 يوليوز 1963؛ وبعد شهر تقريبا من إجراء الإنتخابات التشريعية ل 17 ماي 1963، وهي الإستحقاقات التي جرت في ظل أول دستور للمملكة المغربية، وكانت الغاية الأساس وقتها هي محاصرة واستبعاد أحزاب المعارضة، والإستفراد بالقرار السباسي والديني، كما أن هذا الإعفاء حدث قبل أيام معدودة من انطلاق إحدى أهم  وأشهر محاكمات المغرب، ألا وهي محاكمة يوليوز1963.

  هكذا يتضح أن الإعفاء الذي طال هذا المناضل الوطني بتاريخ 21  يونيو من سنة 1963، كان ضمن استراتيجية عمدت من خلالها “أم الوزارات” إلى نهج أسلوب “التطهير” في صفوف الإدارة الترابية، وبالشكل الذي يضمن انخراط الشيوخ والقياد في الدعاية لفائدة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، التي أسسها أحمد رضا اكديرة وهو  على رأس وزارة الداخلية، وهي  “الإستراتيجيته” التي عمد فيها نفس الوزير إلى  استمالة الأصوات بمختلف الوساىل.

   ولعل أكثر ما يفسر اضطراب السياق السياسي والإداري الذي جاء فيه هذا الإعفاء، هو وإن كان قد تم في يونيو 1963 ولكن لم يحرر ويوقع من طرف الملك الحسن الثاني إلا في 03 نونبر سنة 1966، حسب ما يوضحه الظهير الملكي المتعلق بذلك، والصادر تحت رقم 66-540 راسما فصلا فريدا خاصا بهذا الغرض، حيث تلزم الإشارة إلى أن هذه السنة اتسمت أيضا وكما يعلم الجميع بمزيد من التوتر والإضطراب السياسي بعدما أعلن عن حالة الإستثناء وانفرد الملك بكل القرارات والسلط.

  وللإشارة فهذه الفترة عرفت بالمواجهة المحتدمة بين القصر والقوى الوطنية مثل الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الإستقلال الذي كان قد غادر الحكومة الثامنة في تاريخ المغرب، والتي تشكلت يوم 05 يناير 1963 وعين ضمنها أحمد بلافريج كممثل شخصي للملك الحسن الثاني،   كما قررت باقي أحزاب القوى الوطنية، مقاطعة الإنتخابات المحلية التي جرت 28 يوليوز 1963 وهي الأحداث التي كان لها الأثر الكبير في رسم المعالم الكبرى لعلاقة القصر بهذه الأحزاب. 

ظل وفيا لطقوسه المقدسة إلى أن ترجل عن الحياة

  ظل ياسين الخطابي؛ طول عمره؛ يفرد برنامجا خاصا للقراءة والمطالعة، مستهلا يومه الباكر بقراءة القرٱن الكريم، وبعدها ممارسة عشقه الأبدي بالإطلاع على مستجدات السياسة والإقتصاد والثقافة من خلال الصحف الوطنية، حيث كان يقتني مختلف المنابر الإعلامية ومن حساسيات متنوعة، مثل جريدة الإتحاد الإشتراكي، الميثاق، بيان اليوم والعلم… إلى جانب المجلات الوطنية          والواردة من الدول العربية. 

   ولم يكن يحلو لياسين الخطابي أن ينهي برنامجه اليومي بجولته الخفيفة في الصحف فقط، بل كان يفضل أستكمال كل “طقوسه المقدسة” بالإنزواء في ركن قصي من البيت ويشرع في “ورد السائرين” بمطالعة الكتب في حقول معرفية مختلفة مثل الدين، التاريخ، القانون والأدب…، وهي العادة التي ظل “اسيرا” لها، إلى أن غادر الحياة الدنيا وترجل عن صهوتها، عن عمر يناهز 85 سنة، وورى جثمانه الثرى بمقبرة “صباطي” بفاس بتاريخ 17 أبريل 2004.

  رحل الجسد وما رحلت الروح فقد شكلت سيرته عنوانا مركبا لشرائح واسعة من السياسين؛ على الأقل بالريف وباقي هوامش المغرب؛ الذين “خُلِّفُوا في البُعْدِ” ولاذوا بالصمت انصياعا لقانون المركز والهامش، ولكن ظل ذكرهم في البال وما انْطَفَأُ يوما نورهم.

عن جريدة المسار الصحفي

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.